دخل رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي، الذي شيعه أبناء شعبه اليوم الأحد إلى مثواه الأخير، التاريخ كواحد من أبطال إثيوبيا الذين لا يشق لهم غبار.
لقد شهدت إثيوبيا عبر تاريخها وفاة الكثير من قادتها بشكل غامض يبقى طي الكتمان لسنوات في بعض الأحيان. لكن هذا البلد الواقع في القرن الأفريقي لم يعتد تشييع هؤلاء القادة في جنازات وطنية كما جرى اليوم مع زيناوي.
ففي عام 1913، حينما توفي منليك، أحد أشهر أباطرة إثيوبيا على الإطلاق، ظلت وفاته سرا حتى عام 1916 حين أعلن مسؤولون أنه قضى في نوبة صحية قبل سنوات. ولما توفي آخر أباطرة إثيوبيا 'ملك الملوك' هيلا سيلاسي بصورة طبيعية عام 1975، ساد الاعتقاد على نطاق واسع أن نظام الطاغية منغيستو هايلي مريام هو الذي اغتاله خنقا ثم دفنه تحت مرحاض قصره.
وفي الشهر الماضي توفي رئيس الوزراء زيناوي، الذي تولى قيادة بلاده على مدى عشرين عاما، إثر اصابته بمرض لم تكشف طبيعته بعدما غاب شهرين عن الساحة السياسية. ويرى محللون أن السرية التي تحيط في غالب الأحيان بوفاة القادة الإثيوبيين والأقاويل التي يتداولها الناس، تنبع من عزم السلطة على ضمان الخلافة في ظروف من الاستقرار.
طاغية أم صاحب رؤية؟
مات زيناوي، واحتار الناس في وصفه. هل كان طاغية آخر في قارة لم تعرف غير الطغاة قادة إلا نادرا، أم كان رجل دولة صاحب رؤية وحضور طاغٍ في الساحتين الإقليمية والدولية؟ لم يعد تساؤل من هذا القبيل ذا أهمية بعد أن رحل الرجل عن الدنيا إلى الأبد، لكن يبقى السؤال هو ما أثر غيابه على الصعيد الدولي وعلى القارة التي كان رجلها الأول بامتياز، وإلى أين ستتجه بلاده من بعده؟
لا يختلف اثنان على أن زيناوي كان رجل الولايات المتحدة في شرق أفريقيا. ومع ذلك فقد كان يؤمن بحق القارة في تقرير مصيرها بنفسها، رافضا الرأي القائل إن الغرب له اليد الطولى عليها وإنه هو الذي يُملي عليها ما ينبغي لها أن تفعله.
كان زيناوي ينتقي حلفاءه الأجانب بما يتوافق مع مصالح إثيوبيا العليا. ففي الجانب الأمني، كان حليفا وثيقا للولايات المتحدة حيث سمح لقواتها الخاصة إقامة القواعد ومهابط لطائراتها بدون طيار.
لكنه رغم ذلك لم يكن دمية في يد واشنطن، كما أشار أليكس بيري بمقاله بتاريخ 21 أغسطس/آب الماضي بمجلة تايم. ولم يكن غزوه للصومال عام 2006 للإطاحة بالحكومة الإسلامية هناك على سبيل المثال، نزولا على رغبة أميركية كما زعم كاتب المقال. وقد ظل الرجل يدعم الاتحاد الأفريقي فمنحه مقرا جميلا بأديس أبابا، وتودد إلى الصين التي استلهم منها نظرية رأسمالية الدولة التي تبناها لبناء اقتصاد بلاده.
ولطالما ظل زيناوي يسعى لتحقيق مشروعه الذي سماه 'النهضة الإثيوبية' في إطار رؤيته لما يجب أن تكون عليه بلاده. وبرع في تعامله مع الحكومات الغربية، فلعب بورقة هواجسها الأمنية وتنافسها مع الصين والهند بذكاء.
وواجهت إثيوبيا عبر تاريخها الطويل تحديات جمة ومتشعبة، منها ما هو متعلق بصراع القوميات، ومشكلات الحدود مع إريتريا، وجوائح المجاعات والفقر، والأزمات الاقتصادية وغيرها. وفي عهده شهدت إثيوبيا نجاحات اقتصادية مطردة لم تهن من عزيمتها الاضطرابات السياسية التي شابت انتخابات 2005.
وتحت قيادته أضحت إثيوبيا إحدى أسرع الاقتصاديات نموا ليس بأفريقيا وحدها بل وفي العالم أجمع حيث ظلت تسجل معدلات نمو اقتصادي برقمين عشريين طوال سبع سنوات متتالية، وتدنى معدل وفيات المواليد فيها. وانتعشت خلال حكمه الطبقة الوسطى، وشيدت الطرق، وأقيمت السدود على الأنهار، وزوِّدت القرى بالطاقة الكهربائية.
إخفاقاته
بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة -رغم كل التقدم الذي طرأ على الاقتصاد- أن الفقر ولّى إلى غير رجعة، فمعظم الإثيوبيين ما فتئوا يرزحون تحت نيره. ولسنا في وارد تمجيد الرجل بذكر فضائله وغض الطرف عن مثالبه. فشأنه في ذلك شأن نظرائه الأفارقة، إذ لم يكن زيناوي خاليا من كل عيب ويشهد على ذلك سجله في حقوق الإنسان.
فقد عرضت مجلة 'إيكونوميست' البريطانية بأحد أعدادها سجله الأسود في خرق حقوق الإنسان 'حتى أنه أراد فرض عقيدة الأحباش، التي هي نهج لشيخ مسلم متبوع، فرضاً على جمهرة المسلمين كترياق للوهابية' مما أشعل ثورة المساجد، كما كتب عبد الله إبراهيم في مقال بموقع الجزيرة نت تحت عنوان 'أميركا والسودان.. تلك العصا فأين الجزرة؟'.
وأشار الكاتب إلى أن زيناوي هو من أورد قبيلة الأنواك المشتركة على الحدود بين بلاده والسودان، موارد التهلكة. فشعب الأنواك -كما يقول إبراهيم- جرى تشريده من أرضه التاريخية لصالح مستثمرين أجانب. وسام الانفصاليين المنحدرين من أصول صومالية في شرق إثيوبيا سوء العذاب.
لكنه تذرع بالقول لصحفي أميركي يعمل لمجلة تايم 'نحن نعرف كيف تنجح حركات التمرد وكيف تفشل. قد لا نكون أشد المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم، لكننا لسنا أغبياء كذلك'.
وسيشكل غياب زيناوي نكسة لعملية مكافحة التطرف في منطقة القرن الأفريقي المضطربة، إذ برزت إثيوبيا كدولة محورية في القرن الأفريقي تسهم في المهمات ذات الصلة بأمنه واستقراره، وفق رأي الكاتب صلاح خليل.
ففي مقال بصحيفة 'الشروق' المصرية بتاريخ 30 أغسطس/آب، كتب خليل يقول إن الولايات المتحدة 'لا تحبذ حدوث أي تغير في سياسة إثيوبيا الخارجية لأن واشنطن لا يمكن أن تستغني عن الدور الإثيوبي، كقوة توازن في المنطقة وذراع للولايات المتحدة في مكافحة التطرف والإرهاب، وركيزة أساسية في الأمن الإقليمي لمنطقة القرن الأفريقي...'.
مات زيناوي وسيخلفه مؤقتا على الأقل نائبه هايلي مريام ديسيلين البالغ من العمر 47 عاما، فهل سيحافظ على إرث سلفه أم سيكون له سمتاً ونهجاً مختلفاً عنه؟ لعل الخوف أن تكون هذه الدولة، التي كانت من أعظم الدول قبل ألف عام ثم خبا بريقها بعد ذلك بعد ما فتكت المجاعة تلو المجاعة بالملايين من أفراد شعبها، على شفا الانهيار التام بعد موت زعيمها القوي ملس زيناوي.
غير أن الخوف هو من انطفاء جذوة الضياء، الذي بدأ يشع من هناك بفضل مشروع 'النهضة الإثيوبية' بخطأ قاتل من هنا أو هناك، عندها سيبكي الإثيوبيون، المفجوعون بموت زعيمهم والفرحون، كما لم يبكوه من قبل.